الصورة:
© لوي دي لا توري
بإصرار وتفانٍ يعبّران عن الالتزام العميق تجاه المجتمع، وعن الإيمان بقوة الفعل الثقافي، تنطلق عروض الشارقة في موسمها الثالث في نهاية شهر أكتوبر 2024، وتمتد حتى بداية شهر يناير 2025، حافلةً ببرنامج ثري ومتنوع من العروض الأدائية، يسعى إلى اكتشاف مساحات التلاقي بين الفنانين المعاصرين والجمهور، وإظهار خصوصية مدينة الشارقة وفضائها الحيوي والنابض، وبمشاركة تفاعلية من فنانيها.
تمتاز إمارة الشارقة بمشهد مسرحي نشط، يزخر بالعديد من الفرق والمؤسسات والكثير من المهرجانات المسرحية المحلية، بالإضافة إلى نشاط أكاديمية الشارقة للفنون الأدائية، والتي تُعتبر الأولى من نوعها في الشرق الأوسط. يهدف برنامج عروض الشارقة المكثف والمتنوع إلى التفاعل مع الفنانين المحليين ومشاركتهم مع أعمال يقدمها زملاء من المنطقة، وكذلك تقديم أحدث العروض والتجارب التي يتم إنتاجها في العالم.
ينطلق الموسم في خضم أحداث عصيبة يشهدها العالم العربي منذ عدة أعوام، وفي لحظة استثنائية مشحونة بالتوتر والترقب للمستقبل. وهذا ما عمل عليه المخرج المسرحي سليمان البسام في العام الماضي، متخذاً من حادث انفجار مرفأ بيروت عام 2020 مدخلاً لعرضه "صمت"، الذي يفتتح عروض الموسم في الشارقة، بعد أن حصد العديد من الجوائز في المهرجانات المسرحية العربية. يقول الفيلسوف النمساوي "لودفيغ فتغنشتاين" في كتابه "رسالة منطقية فلسفية"، والذي أنهاه عام 1918 إبان الأيام الأخيرة في الحرب الكبرى، أو ما عرف لاحقاً بالحرب العالمية الأولى: "حيث لا يمكن للمرء أن يتكلم، لا بد من الصمت". يجسد سليمان البسام، بالاشتراك مع حلا عمران وثنائي التنين الموسيقي، تلك الفلسفة في عرضهم "صمت"، الذي يتجلى كقصيدة مسرحية شديدة الخصوصية من الخواطر والذكريات، تطرح تساؤلاً حول جدوى الفعل الفني كوسيلة للمقاومة في ظل التضليل الإعلامي والإرهاب الفكري.
وعن الذاكرة وإرهاصاتها، يتمحور عرض "معالم الذاكرة" للفنان ماليتشو فاكا فالينزويلا، الذي دفعه الفضول الشخصي تجاه الحي الذي يقطنه في العاصمة التشيلية، سانتياغو، في خضم عزلة العالم وعزلته الشخصية أثناء جائحة كورونا عام 2020، لأن يستخدم أدوات من العالم الافتراضي لاستكشاف تحولات الذاكرة، وينسج منها خريطة شاعرية بحميمية مدهشة. تتحول رحلة ماليتشو إلى غوصٍ حرٍّ في عوالم الذاكرة الجمعية للمدينة المليئة بلحظات من الحب والثورة والأمل، وكذلك الخوف والألم والتيه. تجربة شعورية غامرة تمزج الوثائقي بالخيالي، منتجةً عملاً مسرحياً شاعرياً بلغة يانعةً ومتفردة، تعبر حيز الزمان والمكان كي تتواصل مع جوهر الإنسانية، وتحوّل ما كان مصدره شاشات صماء إلى تجربة مفعمة بالحياة.
وإلى قصة ممتدة أبطالها الحجر والبشر، يأخذنا الفنانان والمخرجان السينمائيان جوانا حاجي توما وخليل جريج في عرضهما "تميد الأرض بتاريخ أورتوزيا". اشتهر الثنائي بأعمالهما التشكيلية والتجهيزية والسينمائية، وتم اختيارهما للمشاركة في مهرجان كان السينمائي بفيلم من بطولة النجمة الفرنسية كاترين دي نوف، وحصلا على العديد من الجوائز العالمية، ومنها جائزة مارسيل دو شومب المرموقة. عمل المخرجان مع ممثلين محترفين من مدينة الشارقة على نسخة جديدة من عملهما الأخير الذي تدور أحداثه في شمال لبنان بعد حرب 2006. يتنقل العرض مثل كبسولة زمنية من عام 1948، عندما تم إنشاء مخيم نهر البارد على عجل لإغاثة العائلات الفلسطينية الهاربة من النكبة، إلى عام 2007 حيث نشبت حرب بين الجيش اللبناني ومجموعة متشددة في المخيم نفسه. يكشف دمار المخيم أن تحت أرضه محطة جديدة من قصة العرض، تأخذنا إلى مدينة أورتيزيا الرومانية القديمة، والتي اختفت بعد أن اجتاحها الفيضان في عام 551 م. ولكن ما الذي يعنيه الكشف الأثري الجديد تحت أرض المخيم؟ هل سيسفر عن "نزوح ثانٍ" لساكنيه؟ وماذا يخبرنا انهيار حضارة في الماضي عن حاضرنا ومستقبلنا؟
وكما يشارك ممثلان محترفان من الشارقة في عرض جوانا وخليل، تستعين مصممة الرقصات العالمية نصيرة بلعزة بثلاثة راقصين من طلبة أكاديمية الشارقة للفنون الأدائية، لمشاركة سبعة من الراقصين المحترفين في فرقتها، وذلك لتقديم عرضها الأخير "الغيمة".
صممت بلعزة العرض ليتم تقديمه في فضاء يتشح بالظلمة، وكأنها ترسم لوحة فنية على خلفية سوداء، وتستكشف فيه التمازج بين العنصرين الأبرز في أعمالها الفنية: الدائرة والإيقاع. بين الدائرة كرمز للدقة والديمومة، والإيقاع الذي يتأرجح بين التناغم تارة والتنافر تارة أخرى، تتسع حدقات الأعين لتتبع حركات الراقصين في دائرة متناغمة ذات إيقاع مميز، تجعل من العرض مساحة لاكتشاف خصوصية شعورية لنظام محكم، ولكنه يحمل في طياته مساحة غير مسبوقة من الحرية.
تستلهم بلعزة في هذا العرض الاستثنائي، حركات من رقصات السكان الأصليين المنحدرين من قبائل داكوتا في أمريكا الشمالية، حيث تجمعهم ممارساتهم الطقسية للرقص في نسق دائري، يحمل الفرد على الدوران حول محوره، ومن ثم تتحول الجماعة إلى فلك يضم أجراماً صغيرة تتناغم فيما بينها.
في منتصف شهر ديسمبر يبدأ برنامج عروض الشارقة بالتركيز على عروض تستكشف لغة جديدة تستلهم تجارب وتقنيات أداء من تاريخ المسرح العربي، كي يُستهل بعرض "كيف نعيش مع قطعة أثاث" للمخرج نيكولا فتوح، والذي يقوم بالتمثيل فيه منفرداً. يعمد نيكولا في تجربته المسرحية الأولى إلى التنقل بين العديد من الشخصيات، في أداء شبيه بتقاليد المسرحيات الكوميدية اللبنانية الكلاسيكية، مع مهارات خاصة في فن أفلام التحريك، وهو مجال دراسته في بيروت. يمزج نيكولا في العرض قصتين متوازيتين، حيث نتورط في جلسة نميمة ممتعة بين سيدات من أهل الضيعة (القرية) تدور حول اختيار الرئيسة المقبلة لجمعية مسيحية، لتنتهي بكشف أسرار وخبايا عن عائلات القرية، ومنهم عائلة نيكولا نفسه. وعلى الجانب الآخر، نتماهى في مناجاة نيكولا لروح جده النحات الراحل، وحوار عن فنه وحياته في أثناء تحضيره لصحن من التبولة. وكما الحياة، تتضافر القصتان من منظور عدد من الشخصيات، لتكتمل الحالة الشعورية لمعنى أعمق لاكتشاف ألم الفقد والحنين.
وكما قدم الموسم السابق لعروض الشارقة تجربة فنية جديدة وفريدة في بيت السركال، باسم "ربما هنا"، مع عروض قصيرة قُدِّمتْ عدة مرات في الليلة الواحدة، بمشاركة ستة عشر من فناني المسرح والتجهيز الفني الحي، وفناني الفيديو والشعراء والكتاب... يقوم هذا العام بتقديم تجربة مغايرة باسم "بين البر والبحر" على منصة عائمة (بارج)، مواجهة لبيت عبيد الشامسي في وسط مدينة الشارقة، ومواجهة لمينائه التاريخي.
بالتعاون مع هيئة الشارقة للموانئ والجمارك والمناطق الحرة، التي تدعم إنشاء منصة عائمة في خور الشارقة لبرنامج فني بمثابة مرآة للمدينة، وكأنها تستلهم قصة عبد الله البري وعبد الله البحري من كتاب "ألف ليلة وليلة". حيث تعكس المنصة زخم المدينة وفنونها وأنشطتها، وتشكل بوتقة ومساحة فنية في البحر مقابلة لأنشطة المدينة الفنية على البر. تم تصميم المنصة كمساحة معاصرة مفتوحة، للقاء بين جمهور الشارقة والفنانين المحترفين والشباب، من خلال عروض وجلسات نقاشية وورش عمل ومكتبة تضم أهم أعمال المسرح العربي المنشورة.
بالإضافة إلى القراءات الأدبية والشعرية، وعروض التجهيز الفني، تمت دعوة عدد من الممثلين لتقديم مونولوجات على منصة "عروض الشارقة" العائمة، في تجربة فرجة مسرحية فريدة، تطرح منظوراً مختلفاً لنصوص من تاريخ المسرح العربي، لتحتفي بميناء المدينة وتحوله من خلفية للشريط الحضري إلى مركز فني وتفاعلي حول المسرح العربي وتاريخه.
عند التفكير في تاريخ المسرح العربي، لا يمكن تجاهل سطوة المسرح الكوميدي التجاري على الإنتاج الفني في سبعينات القرن الماضي، وخصوصاً مسرحية "مدرسة المشاغبين" بقلم الكاتب علي سالم، الذي قام بتأليف الكثير من المسرحيات المميزة في فترة الستينات والسبعينات في مصر. ولكنه أثار الجدل وعاش في عزلة في نهاية حياته، بسبب مواقفه السياسية التي رفضها وما زال يرفضها جلُّ فناني العالم العربي ومثقفيه. بعد مرور تسعة أعوام على وفاته، يستعيد المخرج أحمد العطار إحدى مسرحياته الكوميدية ذات الفصل الواحد، والتي نشرها في بداية السبعينات (قبل موقفه السياسي الاستفزازي)، إلى دائرة ومساحة الإبداع الفني. بالاشتراك مع الممثل الكبير سيد رجب، يقدم أحمد العطار مسرحية "الكاتب في شهر العسل" برؤية عصرية وإيقاع شيق، يستقي من روح كتابات سالم المميزة بالموضوعات الجادة المغلفة بالدعابة والسخرية اللاذعة. وتدور المسرحية حول كاتب صحافي مرموق بعد سبعة أيام من زواجه، حيث تنغص على شهر عسله الكثير من التفاصيل المرهقة، التي تدفعه للقلق والشك في كل ما حوله خشية أن يكون مراقباً من إحدى أجهزة الاستخبارات العالمية، فيما تفكر زوجته في احتمالية إصابته بمرض نفسي قد يهدد زواجهما، ليتحول شهر العسل السعيد إلى جحيم من المشاحنات و"البارانويا".
وكما قام برنامج عروض الشارقة بالتركيز على الأماكن العامة في موسمه الأول، وعلى البيوت التراثية وخطة التطوير الحضري لوسط الشارقة التاريخي في موسمه الثاني، يقوم في نسخته الثالثة بإلقاء نظرة متفحصة على حاضر فنون الأداء، عن طريق تقديم أحدث الإبداعات المعاصرة مع مشاركة فعالة من مؤدّين محليين، بالإضافة إلى إلقاء نظرة متأملة على حضور تاريخ المسرح العربي في الإبداع المعاصر في المنطقة، وانعكاساته في المدينة سواء في البر أو في البحر.
27 أكتوبر 2024–5 يناير 2025