نظرة عامة

تمتد التجربة الفنية للمصور العراقي لطيف العاني لأكثر من ثلاثة عقود، وتشكّل خمسينيات القرن الماضي منطلقها وسبعينياته مستقرها، موثقاً بعدسته تفاصيل الحياة اليومية في العراق عبر مهامه العملية وتجاربه الحياتية وليمضي أيضاً في توثيق رحلاته إلى دول أخرى مكوناً بذلك أرشيفاً استثنائياً شكّل سردية بصرية للعراق واشراقاته وتجلياته في تلك الفترة، وعلى عدة أصعدة.

هذا ويأتي معرضه الفوتوغرافي "عبر العدسة 1979 – 1953 " الذي نظمته مؤسسة الشارقة للفنون (افتتح في 16 مارس الماضي ويختتم في 16 يوليو 2018) المكون من 70 صورة بمثابة عرض استثنائي استعادي لعراق الخمسينيات والستينيات والسبعينينات اجتماعياً وديموغرافياً وعرقياً، ورصداً لبيئات العراق المتعددة، ومناخاته وعوامله وأحوال الناس الاقتصادية والاجتماعية المتصلة بأبعاد تاريخية ومعرفية متعلقة بالفترة التي يوثقها.

وحول استضافة المعرض قالت حور بنت سلطان القاسمي رئيس مؤسسة الشارقة للفنون: "تمثّل صور لطيف العاني حقبة فريدة من تاريخ العراق؛ تكشف عن التغيرات الدراماتيكية التي حدثت خلال هذه الفترة القصيرة الحافلة بالأحداث". وأضافت: "بفضل توثيق الفنان لما يحيط به، وتفانيه في أرشفة أعماله، أصبحنا اليوم قادرين على مشاركة هذا التاريخ البصري المهم".

ولد‭ ‬العاني‭ ‬عام‭ 1932‭ ‬في‭ ‬كربلاء،‭ ‬وتعلم‭ ‬التصوير‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬مبكرة‭ ‬من‭ ‬حياته،‭ ‬إذ‭ ‬تدرّب‭ ‬في‭ ‬استوديو‭ ‬لمصوّر‭ ‬محلي‭ حينما كان التصوير الفوتوغرافي مهنة حديثة. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬العاني‭ ‬منشغلاً‭ ‬بالبعد‭ ‬الاستعماري‭ ‬لنفوذ‭ ‬بريطانيا‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬ولا‭ ‬باضمحلاله ‬السريع‭ ‬بعد‭ ‬ثورة ‭‬1958،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يكرّس‭ ‬نفسه‭ ‬لمهنته وعندما‭ ‬أصبح‭ ‬شاباً،‭ ‬انضم‭ ‬إلى‭ ‬مجلة‭ "أهل‭ ‬النفط" ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصدر‭ ‬باللغة‭ ‬العربية‭ ‬عن‭ ‬شركة‭ ‬النفط‭ ‬العراقية،‭ ‬حيث‭ ‬عمل‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬عامي‭ ‬1954‭ ‬و1960‭، وركز‭ ‬العاني‭ ‬خلال‭ ‬عمله‭ ‬هناك‭ ‬على‭ ‬المواضيع‭ ‬المتعلقة‭ ‬بإنتاج‭ ‬النفط.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
وليعمل بعدئذٍ في في‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬العراقية،‭ ‬حيث‭ ‬كلف‭ ‬بإنشاء‭ ‬أرشيف‭ ‬للتصوير‭ ‬الفوتوغرافي ‭( ‬دُمِّر عام 2003 ‬إبان الغزو الأميركي للعراق)، ‬وحينها‭ ‬تحولت‭ ‬موضوعات ‬صوّره‭ ‬إلى‭ ‬العمال ‬والمزارعين. ‬وتعد‭ ‬صورته‭ ‬التي‭ ‬التقطها‭ ‬لامرأة‭ ‬تحمل‭ ‬حزمة‭ ‬من‭ ‬القمح‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬صور‭ ‬العاني‭ ‬نسخاً‭ ‬وانتشاراً‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬واسع،‭ ‬وتم‭ ‬لاحقاً‭ ‬نقشها‭ ‬على‭ ‬عملة‭ ‬عراقية‭ ‬بقيمة 25‭ ‬ألف‭ ‬دينار. وتعكس‭ ‬صور‭ ‬العاني،‭ ‬خلال‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الثقافة‭ ‬العراقية‭ ‬ووكالة‭ ‬الأنباء‭ ‬العراقية،‭ ‬الروح‭ ‬القومية‭ ‬الصاعد‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الستينيات،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تصويره‭ ‬مشاهد‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬من‭ ‬تجمعات،‭ ‬واستعراضات‭ ‬عسكرية،‭ ‬وأحداث‭ ‬سياسية‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

وقد‭ ‬تنوّعت‭ ‬الموضوعات‭ ‬التي‭ ‬لفتت‭ ‬انتباه‭ ‬العاني، ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والعائلة،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬المناظر‭ ‬الطبيعية،‭ ‬والطبيعة‭ ‬الصامتة،‭ والآثار‭ ‬القديمة،‭ ‬والهندسة‭ ‬المعمارية. ‬كما‭ ‬وثق‭ ‬أيضاً‭ ‬انطباعاته‭ ‬عن‭ ‬الأماكن‭ ‬التي‭ ‬زارها‭ ‬خلال‭ ‬رحلاته‭ ‬إلى‭ ‬ألمانيا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة. ويتسم ‬عمل‭ ‬العاني‭ ‬بالغزارة‭ ‬بقدر‭ ‬تنوع‭ ‬اتجاهات‭ ‬الحداثة‭ ‬المشغولة‭ ‬بالجمال،‭ ‬والفن،‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الاقتصاد،‭ ‬والمجتمع،‭ ‬والسياسة‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

إن حياة لطيف العاني المهنية كمصور، وبعد ذلك كمصور متقاعد، ورصيد أعماله الكبير، يسير بتوازٍ ثابت مع محنة العراق وشعبه. لقد بات يحظى هو وأرشيفه بمكانة استثنيائية، فهو الموثق لفترة العراق الذهبية، وهو يخطو إلى الحداثة كما كانت عليه بلدان أخرى. عندما قرر التقاعد من مهنته، وهو قرار يقول إنه أجبر عليه بسبب سياسات العراق في تلك الفترة من نهاية السبعينيات؛ "حين بدأ الاستبداد يرسّخ سطوته، ومن ثم اندلاع الحرب العراقية الإيرانية عام 1980، فأمسى من الخطورة بمكان استخدام الكاميرا في الأماكن العامة"، وبالتالي أغلق الباب على عراق العاني بقوة. وهو يفسر بشكل متكرر أن الخوف تسيّده، وهذا خلق لديه الإحساس بالحاجة الملحة للتوثيق بقدر ما فعله قبل أن يفقد كل شيء، وبكلماته "الخوف الذي عاصرته حينها هو ما نعيشه اليوم. بدأ مع ثورة 1958. جرى حذف هذا الماضي، وأحسست أن الاستقرار لن يطول... كان الخوف الدافع الرئيس لتوثيق كل شيء كما كان. لقد فعلت كل ما في مقدوري لأوثق، وأصون تلك الفترة".